
ألقى المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان رسالة شهر محرم الحرام ورأس السنة الهجرية لهذا العام في مسجد الإمام الحسين(ع) في برج البراجنة، قال فيها:
إن "الإمام الحسين(ع) خلُص إلى أن شرف الوجود دون الإنسان منقوص، وأن الذاتَ الوجودية قدّمت الإنسانَ وعظّمته، ولا يمكن بالنظم الاجتماعية إلا تعظيمُ الإنسانِ وتقديسُه بجميع أفراده، ببعد النظر عن لونه وعرقه وملّته ولغته وانتمائه، وهو ما نريده لهذا البلد المظلوم، بل هو شعار رسالة المحرم الحرام، لذلك قلنا ونقول: الإنسان والعدل ضرورة الربّ في الخلق، وفي هذا السياق: المسيحية توأم الإسلام، وقداسة الله تدور مدار كرامة الإنسان، ولا إنقاذ للبنان إلا بالمواطنة الجامعة، بعيداً عن التمييز والتطويف السياسي ولعبة الكانتونات، إلا أن مشكلة البلد هي إقطاعيةٌ أكثرُ منها طائفية، وطائفيةٌ أكثرُ منها وطنية، وخارجيةٌ أكثر منها محلية، ولعبةُ وكيلٍ أكثرُ منها لعبة أصيل".
ورأى المفتي قبلان أن "شعب لبنان اليوم مكشوف عن ظلم لا سابق له، وعن كارثة لا عهد له بها، والصراع أضحى على الوجود ورغيف الخبز، ووطنٍ ممدّد للذبح، وبلدٍ تتسابق إليه سكاكينُ العالم، ودولةٍ تعاني من التفكك، وقطاعٍ عامٍ منهار، وفقرٍ عابرٍ، وجريمةٍ مدوّيةٍ، ودوامةِ كوارث لا نهاية لها، فيما إخوةُ يوسفَ يشحذون الخناجر، ورغمَ أنّ اللعبةَ الدولية طالت لبنانَ والعربَ، إلا أن المنطقةَ تغيّرت، وجموعَ العرب تفرّقت، والدولَ الإسلاميةَ تمزّقت، فيما النظام الدولي يعتاش على الحروب والغزوات العسكرية والمالية والنقدية، ويعيدُ إنتاجَ بيئة القرار السياسي، ويزرعُ أتباعَه في مفاصلِ السلطة والدولة والقطاعات الحيوية، على مرأى الشعوب المغرّبة عن أوطانها".
وأشار سماحته إلى أن "لبنان اليوم عائمٌ على بحر من النفط، إلا أن القرارَ السياسي يريد ما تريده واشنطن، لا ما يريده الشعبُ، والعرضُ الإيرانيُ عبارةٌ عن "فيول" مجانيّ، إلا أن القرار السياسي ضد، والعرضُ الصينيّ أشبه بخطة إنقاذ ضخمة، والقرارُ السياسيُّ ضد، وروسيا قدّمت عروضاً إنقاذية مهمة، إلا أن القرار السياسي كذلك ضد"... معتبراً "أن البلد منهارٌ، ومن دوّامةٍ إلى دوّامة، والقرارُ السياسي غير مهتم، والشعبُ يلفظُ أنفاسه، جرّاء لعبة الدولارِ والأسعارِ والاحتكارِ والبطالةِ واليدِ الأجنبية، إلا أن القرارَ السياسي في كوكبٍ آخر، الجريمةُ تكادُ تبتلع لبنانَ، والقرارُ السياسي غائبٌ عن السمع، مفوضيةُ اللاجئين تمارس دورَ انتدابٍ إنهاكيٍّ، والقرارُ السياسي نائم، البلد من فراغ إلى فراغ، إلا أن البعض لا يهمه من لبنان إلا لعبةُ المصالحِ الضيّقةِ جداً، دوامةُ الانهيار تتفاقم بشكل كارثي، ورغم ذلك القرار السياسي في زيارة سياحية؛ وهكذا... من جوع ووجع وبؤس ويأس وانهيار مهني ووظيفي واقتصادي، إلى يد لبنانية معدومة، وطوابير ذلٍّ، وطواحين فلتانٍ، وحربِ شوارعَ على الرغيف، ودواءٍ مفقودٍ، وموتٍ على أبواب المستشفيات، وقطاعٍ صحيٍّ على وشك الانهيار، وقطاعاتٍ اقتصاديةٍ ماليةٍ تلفظ أنفاسَها، وأسواقٍ محتلةٍ، وركودٍ خطيرٍ جداً، وشركاتٍ تصفّي أعمالَها، وهجرةٍ مخيفةٍ، وأجيالٍ دون مستقبل، وبطالةٍ لا سابق لها، وتضخمٍ يلتهم شعب لبنان، وتسونامي مالي نقدي يضرب هيكل البلد بالصميم؛ نعم لم يبق شيءٌ! كل ذلك دون أيِّ سياسة طوارئ وطنية، بخلفية رضا واشنطن ولعبةِ خنقٍ وحصارٍ شاملٍ يطالُ البلدَ من الداخل والخارج، وكأن البعضَ يريدُ دفنَ الدولة وهي حيّة، وسحقَ البلدِ، ووضعَ اللبنانيين بوجه بعضهم، ودفعَ القوى السياسية نحو انقسام عامودي يهدّد وحدة لبنان، طبقاً لمشاريع خارجية شديدة الوضوح".
وأضاف سماحته: "السلطةُ غيرُ موجودة، وإدارةُ البلد معدومة، والمطلوبُ إنقاذُ القرار السياسي سريعاً، ولا قرار سياسي دون حكومة إنقاذ وطني، وأي فراغٍّ يطال رئاسة الجمهورية يعني خطوة باتجاه تفكيكِ الدولة، وخنقِ وجودها، وسحقِ هياكلها، ودفعِ البلد نحو المجهول، داعياً "اليومَ قبلَ الغدِ" إلى "تسوية سياسية لا غالب ولا مغلوب فيها، بعيداً عن الجازور الأمريكي لمنع الفراغ الكارثي".
وقال: "المطلوب أن نكون أسياداً لا عبيداً لواشنطن، والنفطُ البحري أصبحَ اليومَ آخرَ فرص لبنان، وإنقاذ لبنان يتوقف على استخراجه. ولذلك نحن مع معادلة "النفط أو الحرب"، وثقتنا بالمقاومة والشعب والجيش قويةٌ جداً، لدرجة أن أيَّ حرب ستغيّر وجه المعادلة قطعاً، وزمن الهزائم انتهى، ولن نقبل أن نُحاصَر دون أن نحاصِر، والمنطقة تغيّرت كثيراً، وميزان القوى تغيّر، وما كنا نقبل به بالأمس على مضض، لن نقبل به اليوم".
وختم المفتي قبلان بالقول: "العهد بأيام الحسين(ع)، الذي جمع بين زهير العثماني وجون المسيحي وولدِه عليٍّ الأكبر، أن نكون إخوة، مسيحيين ومسلمين، مُتضامنين بالعيش المشترك، ووحدة هذا الوطن، ودرعاً للسلم الأهلي ومصالحِ البلد العليا، وأن نجوعَ معاً، ونشبعَ معاً، ونأمنَ معاً، ونبقى معاً، وأن نطوّر الصيغةَ السياسيةَ بما يكفلُ حقوقَ المواطنة العامة، تعزيزاً لكرامة الإنسان، بعيداً عن سرطان الطائفية السياسية، لأن قيمة هذا البلد من قيمة شعبه وناسه، ولتسقطِ الهيمنةُ المالية والسياسية والطائفية، وليبقَ لبنان عظيماً بشعبه ومواطنيه، بعيداً عن لغة الطائفة والمذهب".