يكسر عزيمة شعبنا واحتضانه لخيار المقاومة، ولئن أصابنا في حربه العدوانيّة بمواجع عدّة سواءً عبر سلسلة الاغتيالات أو عبر مجزرة البايجر الإرهابيّة اللئيمة أو عبر غيرهما فإنّنا ولله الحمد نتعافى تباعاً وبسرعة، باستثناء وجعٍ واحدٍ سيبقى يلازمنا وسيلازم أجيالنا الآتية لتحفيزهم على الصمود والتضحية حتّى زوال الاحتلال، إنّه وجعُ مصابنا بشهادة أميننا العام السيد حسن نصر الله وكل شهدائنا الأبرار رضوان الله عليهم جميعاً.
من حقّ الرأي العام أن يعرف أنّه رغم كل ما توفّر للعدو من إمكانات دعمٍ هائلة وقدراتٍ تسليحيّةٍ وتقنيّةٍ ولوجستيّةٍ ومعلوماتيّةٍ واستخباراتيةٍ وبرامج ذكاء اصطناعي ووسائل قتاليّة مختلفة ومستحدثة، فإنّ الجيش الصهيوني المُرَفَّه إِعداداً وعتاداً، لم يرقَ في أدائه القتالي إلى مستوى أداء مقاومينا الأبطال ولم يُبدِ في ميدان الحرب إلا مهارة الارتكاب لأفظع جرائم الإبادة والتوحّش في قصف المدنيين وقتلهم وتدمير بيوتهم وقراهم، واستخدامه القنابل الذكيّة والثقيلة المعروفة المصدر لدكِّ الأبنية الضخمة والمربعات السكنيّة بشكلٍ متفلّتٍ من كل القواعد والضوابط والقوانين.
نعم، لقد قاومنا العدو الصهيوني وحربه المجنونة، وأوقعنا فيه خسائر كبيرةً مباشرة وغير مباشرة، استراتيجيّة وتكتيكية، وثبتنا في مواجهته ثباتاً بطوليّاً مذهلاً أحبط خطّة توغّله البري المقرّرة نحو مجرى نهر الليطاني وما بعده، وألزمه المراوحة ثم التراجع في القطاع الغربي والأوسط والشرقي حيث سطر المقاومون أروع صور الصمود والمقاومة في كل قرى الحافّة الأماميّة من الناقورة إلى شبعا وكفرشوبا مروراً بالخيام الأسطورة التي شهدت بطولات وملاحم استشهاد مذهلة فرضت على العدو الانكفاء نحو خيار التفاوض غير المباشر الذي تصدّى له وخاض غمار جولاته مشكوراً ومفوَّضاً دولةُ الرئيس الأخ الاستاذ نبيه بري مع المبعوث الرئاسي الأمريكي وصولاً إلى إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في 27/11/2024. ومنذ ذاك التاريخ يشهد العالم مراوغة العدو الصهيوني وخروقاته اليوميّة التي دأب عليها جوّاً وبرّاً وصولاً إلى رفضه الانسحاب الكامل وإصراره على مواصلة احتلاله لبعض النقاط مع مساحاتٍ من أرضنا اللبنانية، الأمر الذي يتطلّب موقفاً وطنيّاً حازماً يترجم مضمون بيان الرؤساء الذي صدر في حينه من بعبدا كما يتطلّب متابعةً جدّيّةً من الحكومة اللبنانية لمسؤولياتها إزاء استكمال تحرير تلك النقاط والمساحات وإنجاز هذا الأمر السيادي، وإنّنا نُعرب هنا عن سرورنا التام لإعلان هذه الحكومة عن استعدادها الكامل لتحمّل ذلك وفقاً لما جاء في بيانها الوزاري، وستجدنا بطبيعة الحال مؤيدين وداعمين لجهودها.
دولة الرئيس أيها الزملاء الكرام بغض النظر عن كل ما قيل ويقال عن هذه الحرب العدوانيّة المتوحّشة والموقف منها أو الانخراط فيها، أو الاستثمار على نتائجها. فإننا، في حزب الله والمقاومة الإسلامية، لمّا ننته بعد من ورشة تقييمنا الدقيق والشامل لمجرياتها التي واجهناها، ولتفاصيل ما حدث من تطورات ومؤثرات إيجابية وسلبية ظهرت أمامنا على مدى سنة وشهرين، إلا أننا بتنا على بينة من كثير من المعطيات الوافية، ولقد تتبعنا وتوقفنا باهتمام عند مختلف الوقائع والتفاصيل من جهة ومختلف المواقف والآراء المؤيدة أو المندّدة والصديقة أو المعادية من جهةٍ أخرى، وفي ضوء ما سننتهي إليه من خلاصات سنتابع مسيرتنا الوطنيّة بكل عزم وإقدام ووفاء للشهداء والجرحى والأسرى، ولأهلنا المضحين الذين ترخص الأرواح دونهم والذين ننحني أمام عنفوانهم وعظيم تضحياتهم وجميل صبرهم ووفائهم، ونخجل من سمو روحهم وشموخ إبائهم رغم ما تكبدوه من خسائر وآلام ونزوح وإرهاق وضغوط وهموم، ولن ننسى أبداً وقفة المتضامنين معهم، وحسن تعاطف اللبنانيين مع معاناتهم..
والذين نجدّد لهم اليوم أيضاً، وعبر مجلسكم الكريم، كل الشكر والتقدير والامتنان. وإننا إذ نبيّن هذه الأمور، فلا نخرج عن صلب موضوع جلستنا لما في هذا التبيين من صلة بمناقشة بيان الحكومة التي تطلب نيل ثقتكم.. والخلاصة التي ننتهي إلى تأكيدها هي: إنَّ ما ارتكبه كيان العدو الصهيوني في بلدنا من قتل وتدمير وجرائم ينصّبه كياناً إرهابياً مجرماً لا يليق بهيئة الأمم المتحدة أن تقبل عضويّته فيها، ولا يستحق مطلقاً نيل شرف الاعتراف بشرعيته أو تطبيع العلاقات معه، أو الاستثمار على عدوانه ضدّ بلدنا لتصفية حسابات خلافيّة سياسيّة داخليّة، أو الخضوع لتهديداته وابتزازه المتطاول على لبنان تارةً في إملاء الإجراءات الممنوعة وطوراً في ترسيم العلاقات له وهلمّ جرّا. إنّ مقتضى النبل والشرف الوطني أن نترجم جميعاً كلبنانيين وحدة موقفنا الرافض لاحتلال العدو وتهديداته وأن نتدارس معاً بجدّيّة سُبُل حماية وصيانة بَلَدَنا باستمرار وخيارات التصدّي للتحديات وللتهديدات والمخاطر، وذلك في إطار مسؤول واستراتيجيةِ أمن ودفاع وطني شامل دعا إلى مقاربتها فخامة رئيس الجمهوريّة في خطاب القسم.
إن اعتراض بعضنا على أداء بعضنا الآخر، لا يجوز أن يمنح عدونا الوجودي فرصة لإضعاف موقفنا ضدّ احتلاله وتهديده لبلدنا، كما لا يجوز أن يكون اعتراض بعضنا على أداء البعض الآخر، مادةً لصرف انتباه اللبنانيين والرأي العام عن الجرائم المشينة التي ارتكبها العدو ضد شعبنا وبلدنا وضدّ منطقتنا أيضاً.. وما يحضِّره لها من مشاريع فرزٍ وضمّ وتهجير واقتطاع وتوطينٍ أيضاً، تتهدّد لبنان ومصر والأردن وفلسطين ودولاً أخرى عربيّة في المنطقة وفق ما أعلن نتنياهو المطلوب للعدالة الدوليّة
إننا نجد أنَّ الفرصة لم تزل متاحةً لنتوافق معاً على مقاربة وطنية واقعيّة موحّدة لموضوعي الحماية والدفاع ووقف التدخلات الخارجيّة في شؤوننا، ذلك أنّ الإصلاح المطلوب للإنقاذ يتوقّف نجاحه على ضمان حفظ السيادة الوطنيّة للبلاد، والواقع والمنطق يقرّران أنّ السيادة والإصلاح معاً هما سبيل الإنقاذ المأمول الذي لا يتحقّق بأحدهما من دون الآخر.
أيها الزملاء الكرام في البيان الوزاري عرضٌ مكثّفٌ لعناوين المسائل التي تريد الحكومة مقاربتها خلال الفترة الزمنيّة التي تفصلنا عن موعد إجراء الانتخابات النيابيّة المقبلة في أيّار من العام 2026. والعناوين الواردة في البيان الوزاري هي صياغاتٌ جديدةٌ متناسقة لمضمونٍ متكرّرٍ في بيانات كلّ الحكومات السابقة، الأمر الذي يكشف أنّ مشكلة البلاد لم تكن يوماً في النوايا وإنما في منهجيّة العمل وفي الانقسام الوطني المعطّل لحسن الإدارة والتنفيذ. فيما يتصل بمواجهة الاحتلال والاعتداءات الإسرائيليّة، لقد أقرّت الحكومة حقّ اللبنانيين في الدفاع عن النفس كما تفيد الدلالة القانونيّة للصيغة الواردة في بيانها الوزاري الذي تعهدت فيه أيضاً بمسؤوليّة الدولة عن حماية السيادة الوطنيّة وإنهاء الاحتلال ومفاعيله بشكلٍ نهائي وهو ما نأمل أن تجري نحوه الأمور بأسرع ما يمكن.
كما اعتبرت الحكومة أنَّ أول التزاماتها هو إنجاز تطبيق ما ورد في اتفاق وقف الأعمال العدائية ضدّ لبنان لجهة وجوب انسحاب العدو بشكلٍ كامل من الأرض اللبنانية وتثبيت وقف الخروقات الصهيونيّة والأعمال العدائية ضدّ لبنان واللبنانيين جوّاً وبرّاً وبحراً.
وهنا نؤكّد على الحكومة وجوب رفض وإدانة وتفنيد كل ذرائع العدوّ الكاذبة وتفسيراته الخاصّة المدّعاة حول بنود الاتفاق والتي يتلطّى وراءها لإبقاء احتلاله وانتهاكه لسيادتنا اللبنانية. الأمر الثاني في الأولويات الحكوميّة هو إعادة إعمار كل ما دمّره العدو من بيوتٍ وأبنيةٍ وقرى وأحياءٍ عدّة في بعض المدن ومحال ومنشآت خاصّة وعامّة، ومؤسسات رسميّة ودور عبادة ومراكز عمل خدماتي وصحّي ودفاع مدني وأماكن تراثيّة وأثريّة وبنى تحتيّة طاولها العدوان في محافظات الجنوب والنبطية وبعلبك-الهرمل وفي البقاع الغربي والأوسط فضلاً عن الضاحية الجنوبيّة وبيروت وجبيل وبعض بلدات الشوف وجبل لبنان والشمال.
إنّ إعادة الإعمار هذه تتطلب سرعة في الإعداد والتحضير والمعالجة وتأمين التمويل اللازم ومباشرة التنفيذ بروحيّة وطنيّة تضامنيّة ترفض الابتزاز أو الارتهان لأي شروط سياسيّة.. وننصح الحكومة ألّا تركن إلى وعودٍ من البعض تُطلق فقط لتعطيل وصول مساعدات آخرين. كما إنّ الشروع الجدّي في إعادة بناء الدولة ومؤسساتها وتطبيق كامل سلّة الإصلاحات التي أقرتها وثيقة الوفاق الوطني، وإنفاذ الدستور والقوانين من دون استنساب، يُشكِل أولويّةً ملازمةً لا بدّ أن تتضافر لإنجازها كل الجهود.
وفي هذا المجال، هناك إجراءات وتشريعات وتوجهات يمكن المباشرة بها مثل إصلاح القضاء وتعزيز دور المؤسسات الرقابيّة وإعادة الاعتبار لمعايير الكفاءة والجدارة والاختصاص في التوظيف، وإقرار خطّة إعادة الانتظام المالي والاقتصادي وتصويب السياسات الاقتصاديّة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وحلّ معضلة أموال المودعين وحفظ حقوقهم بشكلٍ حاسم وعادل ووضع حدّ نهائي لمكامن الفساد ومظاهره، وليس آخراً إقرار قانون اللامركزيّة الإداريّة الموسَّعة ومباشرة العمل به من أجل تسهيل أمور المواطنين وتفعيل التنمية في مختلف المناطق..
الزملاء الكرام إنّ إهمال هذه المسائل وعدم صدقيّة الالتزام بالإصلاحات هو ما أعاق ويعيق وعطّل ويعطّل عملية إعادة بناء الدولة العادلة والراعية، وخلافاً لكل الادعاءات والافتراءات لم تكن المقاومة في يومٍ من الأيام سبباً معوقاً أو مُعطلاً لتلك العمليّة على الإطلاق. وإنّ الحكومة اليوم التي حملت عنوان الإصلاح والإنقاذ، هي أمام تحدٍّ موضوعي لا تكفي لمواجهته النوايا الطيبة، وإنما المطلوب فهم دقيق وتشخيص صحيح للواقع المشكو منه، وتقديم العلاجات المناسبة وبالجرعات المحسوبة وطنيّاً منعاً للارتدادات المحبِطة والمضيِّعة للوقت والجهد..
وفي سياق الحديث عن الإصلاح، لا بدّ من التأكيد على أنّ تطبيق الدستور ووثيقة الوفاق الوطني بطريقةٍ انتقائيّة أو استنسابيّة هو مفسدةٌ معيقةٌ للإصلاح ومعطلة للنجاح المتوخّى منه. ختاماً.. سنتجاوز كلّ ما قيل ويُقال عن فذلكة تركيبة هذه الحكومة والمعايير التي قيل أنّها اعتُمدت لتشكيلها وسنتعاون معها آملين أن تسلك السبل السليمة لتحقيق إنجازات وطنيّة مرتقبة توفِّر مناخاً أهليّاً معافى وصولاً إلى انتخابات نيابيّةً نزيهة يجدّد فيها اللبنانيون رسم خياراتهم الوطنيّة والإصلاحيّة على كل الصعد والمستويات..
وإنَّ مشاركتنا في هذه الحكومة، تنطوي على رسائل كثيرة، في مقدمتها التعبير عن موقف شعبنا الذي نمثِّله بأننا جادّون وإيجابيّون في ملاقاة العهد الرئاسي الجديد وحريصون على التعاون إلى أبعد مدى من أجل حفظ سيادة الوطن واستقراره وتحقيق الإصلاح والنهوض بدولته لتكون الدولة الراعية لشعبها والقويّة به وبإرادته والمعبّرة عن كرامته ومصالحه وتطلعاته.. ثقتنا نمنحها للحكومة احتراماً لمبدأ المشاركة على أمل أن تتجمّل بالحكمة وحسن الأداء لتنجح في فتح أبواب الإنقاذ الجدّي للبلاد.